أجمع المحلِّـلون الغربيون على أن عملية التفجير التي استهدفت السفارة الفرنسية في نواكشوط يوم 9 أغسطس وأسفرت عن إصابة ثلاثة أشخاص (أعلن تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الاسلامي يوم 17 من نفس الشهر مسؤوليته عنها)، مؤشر قوي على تصاعُـد عمليات "القاعدة" في منطقة المغرب العربي.وما أكّـد هذه الرؤية، أن الخط البَـياني لعمليات "القاعدة" في الجزائر، أبصر في الفترة الأخيرة اتِّـجاها تصاعُـديا، وهناك مخاوِف واسعة من أن يشكِّـل شهر رمضان مناسبة لتصعيد التفجيرات والاغتيالات، طِـبقا للمنهج الذي دأبَـت عليه هذه التنظيمات في السنوات الماضية.
وأتى التفجير الذي استهدف السفارة الفرنسية في موريتانيا، تنفيذا لتحذير سابِـق وجّـهه أيمن الظواهري، الرجل الثاني في تنظيم القاعدة، بضرب المصالح الفرنسية بسبب موقف باريس من الحجاب، استِـنادا إلى المركز الأمريكي لرصد المواقع الإلكترونية الإسلامية.
ومن الواضِـح أن "القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي" تسعى من خلال تكثيف العمليات وتوسيع مجالها الجغرافي إلى كافة البلدان المغاربية، لتكريس موقِـعها المِـحوري بوصفها قوّة المعارضة المسلحة الرئيسية في المنطقة.
ويرى الإعلامي الجزائري احميدة العياشي أن الهدف المباشر لـ "القاعدة"، ليس قتال اليهود والنصارى، وإنما الإطاحة بالأنظمة الحاكمة لتعويضها بحكومات إسلامية وإرجاء قِـتال الأجانب إلى مرحلة لاحقة.
وفي هذا السياق، تستفيد "القاعدة" من مناخ عدم الاستقرار والتوتّـر، لكسب مزيد من الاهتمام بها، وخاصة لاستقطاب الإعلام. وسبق لأمير الجماعة عبد الملك دروكدال أن أكّـد في حديث نادر أدلى به لصحيفة "نيويورك تايمز" في صيف العام الماضي، أنه يسعى لوضع تنظيمه في موقِـع مِـحوري داخل الجزائر وكذلك في الخارج، أي في علاقة مع القوى الدولية المؤثِّـرة في المنطقة.
غير أن آمال مَـدّ نفوذ تنظيمه إلى ليبيا المجاورة، تلقّـت نكسة قوية بتسارُع التّـقارب بين الحكم و«الجماعة الإسلامية المقاتلة»، التي تخلّـت عن الخِـيار العسكري وسلّمت عناصر بارزة منها إلى السلطات "مراجعاتها التصحيحية"، التي قام بها قادتها المسجونون في ليبيا، لتنضَـم الجماعة إلى جماعات عديدة في العالم العربي، تراجعت عن سلسلة من مواقفها السابقة التي أباحت العُـنف لقلْـب أنظمة الحُـكم في بلدانها.
وجاء صدور المراجعات بعد أيام من هجوم شنّـه القيادي في «المقاتلة» أبو يحيي الليبي على حُـكم العقيد معمر القذافي، لكن أبو يحيي لم يتحدّث باسم "المقاتلة"، وإنما بصفته قِـيادياً في تنظيم «القاعدة». ونأى قياديون في "المقاتلة" الشهر الماضي بجماعتهم عن «القاعدة»، قائلين إن الجماعة الليبية ليست جزءً من التنظيم.
وقال الخبير التونسي في الشؤون الدولية احميدة بن رمضان ردّا على سؤال لـ swissinfo.ch عمّـا إذا كانت "القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي" ظاهرة دائمة أم نتوءا عابِـرا، أن تنظيم "القاعدة" لن يصل أبدا إلى الحُـكم، إن كان في المغرب العربي أم في سِـواه من المناطق، لسبب بسيط، وهو أن التاريخ أثبت أن أي حركة إرهابية، أي تلك التي تستخدم العنف المنهجي ضدّ المدنيين الأبرياء من أجل غايات سياسية، لم تنجح في الإطاحة بنظام قائم والحلول محلّـه، بالنظر إلى أن وسائِـلها تعزلها بسُـرعة وتقطعها عن المدد الشعبي، الذي هو ضروري لأخذ الحكم.
وأضاف بن رمضان، الذي يعمل رئيسا للقسم الدولي في صحيفة "لابراس" اليومية التونسية، أن "القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي "يمكن أن تغذّي بأعمالها نشرات الأخبار طيلة سنوات، لكنها حركة ضعيفة مقارنة بـ "الجماعة السلفية المسلحة"، التي برزت في تسعينات القرن الماضي مثلا. فهي نفّـذت بعض العمليات المثيرة على غِـرار التفجيرات التي استهدفت مقرّات حكومية أو مكاتب للأمم المتحدة في الجزائر العاصمة، وقامت بهجمات جسورة على قوافِـل عسكرية، غير أن نشاطها المسلّـح يبقى ظاهرة هامشية ولا يُـهدّد أي بلد من البلدان الخمسة، الأعضاء في الإتحاد المغاربي".
توزيع جديد للأدوارواعتبر محلِّـلون عسكريون جزائريون أن العمليّـتين اللّـتين وقعتا في برج بوعريريج وتيبازة في شهر يوليو الماضي، مؤشّـر مهِـمّ على توزيع أدوار جديدة في تنظيم "القاعدة".
والجدير بالذكر في هذا المضمار، أن الأمن الجزائري حدّد خمس مناطِـق كُـبرى لانتشار ما يُطلق عليه "الإرهاب"، بعدما توصّـلت أخيرا أجهزة الاستخبارات إلى تأكيد معلومات تتّـصل بإعادة انتشار الجماعات المسلّـحة عبر الولايات والمناطق، وبإحداث تغييرات في توزيع الأدوار بين قيادييها وعناصرها، واعتبرت المصالح المتخصّـصة في محاربة "القاعدة"، أن تلك التطورات تدُل على نفَـس جديد في نشاط التنظيم.
وكانت عناصر "القاعدة" زحفت في مطلع الشهر الجاري على مواقع "حماة الدّعوة السلفية"، التنظيم المنافس لها في غرب البلاد، وأعلنت معمّـر صوان مسؤولا جديدا في الغرب، حاسِـمة بذلك التناحُـر بين التنظيميْـن ومكرّسة نفسها التنظيم المسلّـح الوحيد النّـشط في شرق البلاد وغربها. وفي هذا السياق، حرِصت على إعلان تبنِّـيها لعملية استهدفت قافِـلة للجيش في تيبازة، بعدما حامت شكوك قوية حول احتمال وقوف "الحماة" وراء العملية.
ونفّـذت "القاعدة" في الفترة الأخيرة أيضا عملية في موريتانيا، أحدثت من الفرقعة الإعلامية أكثر ممّـا أوقعت من الضحايا من خلال العملية الانتحارية التي استهدفت السفارة الفرنسية يوم 8 أغسطس 2009، أي بعد ثلاثة أيام من تسلّـم الرئيس محمد ولد عبد العزيز مقاليد السلطة، وهو الذي تعهّـد بمكافحة الإرهاب، والتي لم تُسفِـر إلا عن جرح ثلاثة أشخاص. وأتت العملية بعد ستة أسابيع من اغتِـيال مواطن أمريكي في حي القصر في العاصمة نواكشوط، والتي تبنّـتها "القاعدة".
وحققت "القاعدة" هدفا تكتيكيا آخر بجرّ حكومة مالي إلى مُـقايضة مُلفتة في الفترة نفسها، إذ استجابت حكومة الرئيس أمادو توماني توري من جديد لضغوط فرع "القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي"، في الصحراء والساحل الإفريقي، وقبلت بصفقة لتبادُل الأسرى أفرجت "القاعدة" بموجبها عن ثلاثة جنود ماليين كانت اختطفهم قبل فترة في اشتباكات مع الجيش المالي. وتكتّـمت باماكو على طبيعة الصّـفقة لقاء الإفراج الذي تمّ في منطقة قريبة من تومبوكتو، إلا أن مصادِر إعلامية جزائرية رجّـحت إطلاق النظام المالي بدوره سراح ثلاثة سلفيين جهاديين ينتمون للتنظيم كانوا معتقلين لديه، ولم يُكشف عن أسمائهم.
ورأت سلمى بالعالة، الباحِـثة في "مركز الدراسات والأبحاث الدولية" الفرنسي CERI أن الهدف الأخير للتنظيم هو البرنامج نفسه الذي كان لتنظيم الإخوان المسلمين وسائر الحركات الإسلامية، والمتمثل في "أسلَـمة الدولة والمجتمع على السواء"، غير أنها أكّـدت أن إيصاد الأبواب الشرعية أمام التيارات الإسلامية السياسية يُغذي التطرّف، مستدِلّـة بالتجربة الجزائرية بين 1992 و1995، والتي قالت إنها اتّـسمت بإقبال النشطاء الإسلاميين الراديكاليين على الإنخراط في "الجماعة الإسلامية المسلحة" في أعقاب حظر "الجبهة الإسلامية للإنقاذ".
واعتبرت المختصة في دراسة الحركات الأصولية في تصريح لـ swissinfo.ch أن خطّ التبايُـن الأساسي داخل التيار الإسلامي، يرتسم بين الذين اندمجوا في اللّـعبة السياسية الشرعية ضمن الإطار القطري، والذين لجؤوا للعُـنف الإرهابي وانتهجوا طريق "الجهاد الشامل".
بهذا المعنى، نفهم توسيع دائرة "الحرب الجهادية" التي تشنّـها "القاعدة" بزعامة عبد الملك دروكدال، الملقب بأبي مصعب، إلى البلدان المحيطة بالجزائر، وخاصة التي تُعتبر حدودها مكشوفة، مثل موريتانيا ومالي والنيجر.
صورة نادرة تُظهر مسلحين في منطقة جبلية التقطت حسبما يبدو داخل الأراضي الجزائرية قبل عدة أعوام مطاردات جوية وحملة "جماعية"هذا النشاط المُـتزايد للتنظيم في مناطق مختلفة داخل الجزائر وخارجها، جعل المؤسسة العسكرية تنتقل سريعا إلى خطّـة هُـجومية بشنّ ثلاث حملات تمشيط واسعة، شارك فيها نحو عشرة آلاف جندي، إحداها في ولاية باتنة (510 كلم جنوب شرق العاصمة الجزائر) القريبة من الحدود المشتركة مع تونس، والثانية في تيبازة، القريبة من العاصمة، والثالثة في منطقة حدودية بين ولايتَـيْ برج بوعريريج وبجاية (200 كلم شرق العاصمة).
وفي هذا الإطار، قرّر الجيش مُـضاعفة عمليات الاستطلاع الجوي لمطاردة عناصر "القاعدة"، وأفيد أن وزارة الدفاع الجزائرية تدرس حاليا عدّة خيارات لاقتناء طائرات استطلاع بلا طيار، لاستعمالها في محاربة "الإرهابيين"، لكن مصادر مطّـلعة أكّـدت لـ swissinfo.ch أن هذه الصفقة تُـواجه صعوبات تِـقنية وسياسية عديدة، من دون الكشف عن طبيعة الصعوبات.
وفي السياق نفسه، قررت الجزائر نقل تعاوُنها الأمني مع كل من ليبيا ومالي إلى مستوى أعلى، بُغية تطويق نشاط "القاعدة" في المنطقة. وأعلن الرئيس امادو توماني توري في الأسبوع الثاني من شهر أغسطس أن الجزائر وليبيا ومالي "ستضع سوِيا وسائِـلها العسكرية لمكافحة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الذي يهدِّد أمْـن مِـنطقتيْ الساحل والصحراء".
وكان الرئيس المالي أعلن لصحيفة "ليسور" L'Essor الحكومية في آخر قمّـة عقدها الاتحاد الإفريقي مطلع شهر يوليو الماضي في ليبيا، أنه تحدّث مع الزعيم الليبي معمر القذافي والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بالخصوص عن الوضع السائد في منطقة الساحل والصحراء، موضِّـحا "قرّرنا وضع إمكاناتنا العسكرية والاستخباراتية سوِيا لمُـكافحة هذه المشكلة".
رشيد خشانة – تونس – swissinfo.ch