محمد السماك
جريدة النهار (لبنان)
الأحد، 17 تشرين الثاني / نوفمبر 2002م
في الاساس، لا يكون الحوار الا مع الآخر. وتحديداً مع الآخر المختلف.
ان هدف الحوار هو شرح وجهة النظر وتبيان المعطيات التي تقوم عليها،
وفي الوقت نفسه الانفتاح على الآخر لفهم وجهة نظره ثم للتفاهم معه. ذلك
بان التفاهم لا يكون من دون فهم متبادل. والحوار هو الطريق الى استيعاب
المعطيات والوقائع المكونة لمواقف الطرفين المتحاورين، ثم الى تفاهمها.
في ثقافتنا الاسلامية، كما يقول ابو الوليد الباجي، أن من اجتهد وأصاب الحق
فقد اجر أجرين. أجر الاجتهاد وأجر الاصابة للحق. ومن اجتهد وأخطأ
فقد أجر أجراً واحداً لاجتهاده ولم يؤثم على "الخطأ". نفهم من ذلك ان
الاجتهاد، كأي عمل فكري انساني، مفتوح على الخطأ والصواب. فهو ليس
مقدساً ولا مطلقاً ولا ثابتاً، بل هو انساني، محدود، ومتغير.
وفي ثقافتنا الاسلامية ايضاً ان "رأيي صحيح يحتمل الخطأ، ورأي غيري
خطأ يحتمل الصواب". نفهم من ذلك ايضاً انه ليس لأحد ان يدعي الحقيقة
المطلقة. وليس له ان يخطئ الآخرين لمجرد اقتناعهم برأي مخالف.
فالحقيقة نسبية. والبحث عن الحقيقة، حتى من وجهة نظر الاخر المختلف،
طريق مباشر من طرق المعرفة. وهو في الوقت نفسه اسمى انواع
الحوار.
وفي ثقافتنا الاسلامية كذلك، ان الحوار يتطلب اولاً وقبل كل شيء الاعتراف
بوجود الاخر المختلف، واحترام حقه ليس في تبني رأي او موقف او اجتهاد
مختلف فحسب، بل احترام حقه في الدفاع عن هذا الرأي او الموقف او
الاجتهاد، ثم واجبه في تحمل مسؤولية ما هو مقتنع به.
ولأن الحوار يحتم وجود الآخر، فلا بد من تعريف الآخر. وهو تعريف لا
يمكن ان يتم في معزل عن الأنا. ان فهم الآخر، ثم التفاهم معه، لا يتحققان
من دون ان تتسع الأنا له. وبالتالي، كلما سما الانسان وترفع عن أنانيته،
أوجد في ذاته مكاناً أرحب للآخر. ان الحقيقة ليست في الأنا. انها
تتكامل مع الآخر، حتى في نسبيتها. وهي لا تكتمل في اطلاقيتها الا بالله.
والحوار مع الآخر اكتشاف للأنا وإضاءة ساطعة على الثغر والنواقص التي
لا تخلو منها شخصية انسانية. ولذلك يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول
سارتر: "الآخر هو وسيط بيني وبين نفسي، وهو مفتاح لفهم ذاتي
والاحساس بوجودي".
الآخر قد يكون فرداً وقد يكون جماعة. وفي الحالين، قد يكون مؤمناً، وقد
يكون كتابياً وقد يكون كافراً. الآخر المؤمن هو للمؤمن كالبنيان
المرصوص يشدّ بعضه بعضاً. والآخر الكتابي في المجتمع الاسلامي هو
في ذمة المسلم * والرسول يقول "من آذى ذمياً فقد آذاني". اما الآخر
الكافر، فالعلاقة معه مبنية على قاعدة "لكم دينكم ولي ديني". وفي كل
الحالات، فان العلاقة بين المسلم والآخر يختصرها الحديث الشريف الذي
يقول فيه الرسول محمد "المسلم من سلم الناس من يده ولسانه".
يقرر الاسلام الاختلاف كحقيقة انسانية طبيعية، ويتعامل معها على هذا
الاساس. {يا أيها الناس إنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} (سورة
الحجرات، الآية 13).
خلق الله الناس مختلفين اثنياً واجتماعياً وثقافياً ولغوياً، ولكنهم في الاساس
"أمة واحدة" كما جاء في القرآن الكريم: {كان الناس أمة واحدة
فاختلفوا} (سورة يونس. الآية 19)، اي ان اختلافاتهم على تعددها لا
تلغي الوحدة الانسانية.
تقوم هذه الوحدة على الاختلاف، وليس على التماثل او التطابق. ذلك ان
الاختلاف آية من آيات عظمة الله، ومظهر من مظاهر روعة ابداعه في
الخلق. يقول القرآن الكريم: {ومن آياته خلق السماوات والأرض
وإختلاف ألسنتكم والوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} (سورة الروم، الآية
22). والقاعدة الاسلامية كما حددها الرسول محمد هي ان {لا فضل
لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى}. وبالتالي فإن
الاختلاف العرقي لا يشكل قاعدة لأفضلية ولا لدونية. فهو اختلاف في
إطار الأمة الانسانية الواحدة، يحتم احترام الآخر كما هو على الصورة التي
خلقه الله عليها.
اذا كان احترام الآخر كما هو لوناً ولساناً (اي اثنياً وثقافياً) يشكل قاعدة
من قواعد السلوك الديني في الاسلام، فان احترامه كما هو عقيدة وايماناً هو
احترام لمبدأ حرية الاختيار والتزام بقاعدة عدم الاكراه في الدين.
فالقرآن الكريم يقول: {لكل وجهة هو موليها} (سورة البقرة، الآية
148). وفي اشارة واضحة الى تعدد التوجهات يقول ايضاً: {وما
بعضهم بتابع قبلة بعض} (سورة البقرة، الآية 145).
ذلك انه مع اختلاف الالسن والألوان، كان من طبيعة رحمة الله اختلاف
الشرائع والمناهج، وهو ما اكده القرآن الكريم بقوله: {لكل جعلنا منكم
شرعة ومنهاجا. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما أتاكم.
فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} (سورة
المائدة، الآية 48). و{الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون}
(سورة آل عمران، الآية 141). و{لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة
ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (سورة هود، الآية
118).
تقبلوا تحياتي وشكرا.