كتبهاأحمد القراري
الدور الحضاري للمكتبات الإسلامية
إذا عرجنا على العالم العربي الذي كان معظمه لا يعرف للتدوين طريقا سوى بعض القصائد الشعرية المكتوبة على اللخائف أو جلود الغزال ، ولم يعرف للعلم سبيلاً إلا بعد التحول العظيم بنزول الرسالة المحمدية رسالة إقرأ، فانتقلت من مجتمع جاهلي أمي إلى أمة إقرأ بفضل الوحي الرباني، وإرشادات خير البرية وحثه لأصحابه على طلب العلم فكان لذلك الأثر الكبير في إقبال الأمة على العلم، ما ولد نشاطا علميا واسعا في مختلف الميادين، فحققت الأمة الإسلامية الازدهار الحضاري وأمدت التراث الإنساني بذخيرة علمية قيمة لا يزال يستفيد منها العالم1.
وكان لانتشار التعليم أسباب مثل بروز ضرورة تدوين الوحي والحديث، كما وأن قرار النبي ص في أسرى غزوة بدر بافتداء أنفسهم عن طريق تعليم تسعة صبيان الكتابة الأثر في انتشار الكتابة، التي أدى إتقانها إلى تدوين العلم وحفظه ما نتج عنه مؤلفات ومصنفات فما كاد يأفل نجم القرن الثالث الهجري حتى كثرت المؤلفات في مختلف العلوم حيث قال بن خلدون في ذلك:وطما بحر العمران والحضارة في الدولة الإسلامية في كل قطر وعظم الملك ونفقت أسواق العلوم وانْتسخت الكتب وأجيد كتبها وتجليدها وملئت به القصور والخزائن الملوكية بما لا كفاء له…2
وبعد هذا التمهيد الضروري لمعرفة الظروف التي أدت إلى ظهور المكتبات، نجد أن نشأة المكتبات في الإسلام كان مع نشأة المساجد التي لم تكن مكانا خاصا للعبادة فقط بل كانت مركز الحياة الاجتماعية والعلمية ومقر اجتماع العلماء والطلبة، وفي أواخر القرن الثالث الهجري كثرت المكتبات العامة و أمدت بالكتب والنساخ3، و لن نأتي على ذكرها كلها وسنكتفي بأشهر المكتبات التي ذاع صيتها والتي لا تشكل إلا غيضا من فيض من مكتبات إسلامية كثيرة.
1 ـ دار الحكمة أو بيت الحكمة :
وهي أول مكتبة أكاديمية وعامة تقام في البلاد الإسلامية ويرجع المؤرخون أول من أسسها إلى الخليفة هارون الرشيد (149-123 هـ) الذي ازدهرت في عصره حركة التأليف والترجمة والتي كان مقرها دار الحكمة ترجمت في هذه الفترة الكثير من نفائس العلوم من الفارسية واليونانية ولغات أخرى وكانت حركة الترجمة هذه عظيمة حيث لم يشهد لها التاريخ من قبل ما حفظ للإنسانية تراثا قيما، بالإضافة إلى أنها كانت مقر الدرس والمطالعة والبحث وكانت تقام بها مناظرات ومناقشات، وقد تردد على هذه المكتبة للبحث والتأليف الفيلسوف الكندي ، محمد بن موسى الخوارزمي. وقد ضمت كتبا من مختلف العلوم: التراث الإسلامي، التراجم والسير، كتب الكيمياء، الفلك، الطب والجبر؛ واحتوت على مرصد فلكي. وقد و صفها وول ديورانت في كتابه قصة الحضارة بأنها مجمع علمي ومرصد فلكي ومكتبة عامة، ولا يجب أن نهمل الانعكاس الإيجابي على الاقتصاد لنشاط الحركة العلمية وشراء الكتب ونسخها فقد ظهرت مهن جديدة كالوراقة والنسخ - التي هي بمثابة صناعة النشر اليوم – بفضل رواج سوق الكتب فقد غصت بغداد بدكاكين الوراقين الذين ينسخون الكتب ويبيعونها للناس… وقد اشتهرت بغداد بعدد مكتباتها حيث يقال أنها بلغت 100 مكتبة 4 فأصبحت بغداد قبلة العلم آنذاك وتعد بيت الحكمة أكبر مكتبات العصر العباسي، ظلت الخزانة قائمة يستفيد منها الرواد والعلماء وطلاب العلم إلى غاية استيلاء المغول على بغداد سنة 656 هـ حيث نهبوا وخربوا وألقو بالآلاف من المخطوطات في النهر حتى غدت مياه الفرات سوداء من لون المداد بذلك ضاع جزء كبير من تاريخ وذاكرة الإنسانية في هذه الواقعة ووقائع مشابهة سوف نوردها فيما يأتي .
2ـ دار العلم أو دار الحكمة:
أنشأت من طرف الفاطميين سنة 395 هـ بمصر بحيث بلغ اهتمامهم بالعلم درجة كبيرة، بالإضافة إلى مكتبات القصور الكبيرة مثل مكتبة العزيز بالله الفاطمي الذي قالت عنه سيغريد هونكة : لا يستطيع أحد أن يقارن نفسه بالخليفة العزبز في القاهرة … فقد حوت مكتبته 1.600.000 مجلد والتي شكلت فيما بعد نواة مكتبة دار الحكمة، وأقيمت في بناء مستقل وعلى قدر كبير من الزخرفة والتزيين وضمت 18 قاعة مطالعة ويقول الدكتور ألكسندر ستيبتشفيتش في الدور الحضاري للمكتبة بأنها كانت مكان للقاء العلماء والمترجمين وكل من يبحث في فروع العلم5 وفتحت لعامة الناس ، أي كانت مكتبة عامة ما يدل على المستوى العلمي الرفيع للأمة آنذاك. وقد جهزت بما يحتاجه الرواد من ورق و حبر وأقلام كانت تقدم لمن أراد استنساخ مصنف أو كتاب بالمجان. وقد بهرت المكتبة جربرت فون أورباك الذي ارتقى كرسي البابوية في روما، فقال متحسرا: إنه لمن المعلوم تماما أنه ليس ثمة أحد في روما لـه من المعرفة ما يؤهله لأن يعمل بوابا لتلك المكتبة (دار العلم )، وأنى لنا أن نعلم الناس ونحن في حاجة لمن يعلمنا، إن فاقد الشيء لا يعطيه . وبقيت المكتبة قائمة إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية بموت العاضد سنة 567هـ حيث بيع جزء منها لمدرسة وما فتئت أن نهبتها الأيدي.
3ـ مكتبة قرطبة :
أما الأندلس حاضرة الإسلام في قلب أوروبا التي بفضلها نقل المسلمون الكاغد (الورق) إلى أوروبا كما نقلوا إليها الحضارة والعلم فقد كثرت فيها المكتبات وبلغت نحو السبعين سوى المكتبات الخاصة، وأشهرها كانت مكتبة قرطبة التي أنشأها الأمويون وبلغت أوج ازدهارها في عصر المستنصر الذي كان لـه وكلاء في كل البلاد الإسلامية يزودونه بكل ما ينتج العلماء المسلمون آنذاك، تميزت مكتبة قرطبة باقتنائها للكتب النادرة والثمينة، فقد أرسل أبو الحكم إلى أبو الفرج الإصفهاني حينما انتهى من كتابه الأغاني رسولا خاصا ليسجل هذا الكتاب في مكتبته في بادئ الأمر قبل استنساخه وتوزيعه، هذا يظهر لنا جليا اعتناء الحكام بالعلم وأهله6. وقد جمعت خزانة قرطبة حوالي 400 ألف مجلد7، في حين أن شارل الخامس ملك فرنسا في القرن الثامن الهجري (14م.) لم يستطع أن يجمع في مكتبة فرنسا الرئيسية أكثر من 900 مجلد خمسها في اللاهوت، وإشارة إلى المستوى العلمي الذي بلغه المسلمون في الأندلس أن النشاط العلمي لم يقتصر على الرجال، فقد شمل حتى النساء حيث أجري إحصاء في أحياء قرطبة التي تبلغ واحدا وعشرين حيا أيام ازدهار الخلافة فوجد أن 170 امرأة يجدن الخط الكوفي ويكتبن به المصاحف، وقد كان لعائشة القرطبية (400 هـ.) إحدى كاتبات المصاحف المشهورات خزانة كتب كبيرة، يوم كانت المرأة في أوروبا ترزح تحت الجهل والعبودية.
بنظرة سريعة لما سبق يتبين لنا أنه وعلى مر التاريخ كله لم توجد كتب ولا مكتبات في أي بقعة من الأرض إلا وكانت مرتبطة بالحضارة بصفة عامة، وبالعلم والتعليم والبحث بصفة أخص، وطبيعي إذا ألاّ تظهر مكتبات ـ بذلك التنظيم والحجم الكبير ـ في أمة من الأمم إلا بعد أن يكون لها تراث حضاري هام يدل على مستواها الفكري والعلمي8.
--------------------------------------------------------------------------------
1 - العلم عند العرب وأثره في تطور العالم العربي .ـ ص. 423
2 - ابن خلدون . المقدمة . ـ ص.420
3 - الخطيب ، محمد عجاج . لمحات في المكتبة ،البحث والمصادر .ـ بيروت: مؤسسة الرسالة، 1997، ص.45
4 - عليان ، ربحي مصطفى . المكتبات في الحضارة الإسلامة . ـ عمان : دار صفاء ، 1999 ، ص. 150 -151
5 - نفس المصدر السابق . ص. 155
6 - نفس المصدر السابق . ص. 158
7 - ذكر المستشرق وليم رابر أنها وصلت إلى 600 ألف مجلد. أنظر فهارس المكتبة العربية في الخافقين ص 64. ـ عن كتاب المنازعة بين الدين والعلم لرابر
8 - الوثائق والمكتبات في الحضارة الإسلامية . ـ ص.75-76