من حق ليبيا أن تفرح ببراءة المقرحي
لغط كثير يسيل في الأنهار البريطانية هذه الأيام وتحديدا بعد افراج القضاء الاسكتلندي عن المواطن الليبي عبد الباسط المقرحي الذي اتهم وحوكم بلا اثباتات قانونية في تفجيرات طائرة بانام الأمريكية في مدينة لوكربي.
قرار الافراج أثار ضجة لدى الأحزاب المعارضة في بريطانيا وفي أروقة الحكومة وهي ضجة نعتقد انها ليست مبررة بالنظر الى الآليات القانونية والانسانية الصارمة والواضحة التي قيدت عمل القضاء الاسكتلندي ومهدت لاعلان قرار الافراج بغض النظر عن وجود أي ضغوط أو أي صفقات من أي نوع.
والمهم في كل تلك الضجة أنها تظل شأنا بريطانيا ولا تعني شيئا بالنسبة الى الموقف الليبي كما لا يمكن أن تطعن او تشكك في شرعية الافراج ولا في جهود المسؤولين الليبيين وجهاز الدولة في ممارسة كل الصلاحيات من أجل استعادة مواطنها. فهذا هو واجبها.
صحيح ان القضاء الاسكتلندي مارس مهامه كاملة وخير الافراج عن المقرحي بدواع انسانية، ولكن اصل القرار أن المقرحي أفرج عنه كذلك لوجود قصور في تطبيق العدالة بشهادة القضاة ولعدم كفاية أدلة الإدانة. وفوق كل ذلك الرغبة الواضحة والملموسة لدى القضاء الاسكتلندي، بايعاز من الحكومة البريطانية، في الهروب من ورطة الاستئناف لأن ذلك بكل بساطة قد يفسح المجال لنفض الغبار عن ملفات أخرى وقد يقود الى كشف حقائق لا يرغب كثيرون في كشفها والاعلان عنها.
ويمكن الوقوف على ذلك بالعودة الى ما قاله روبرت فيسك أحد أعمدة الصحافة في بريطانيا تعقيبا على ضجة المعارضة والحكومة "تجاهلوا الغضب الذي أبداه وزير الخارجية إزاء الاستقبال الذي لقيه المقرحي في طرابلس والذي قد يبعد الأنظار عن الحقيقة التي تقول ان المقرحي نفسه وليس محاموه من تولى اسقاط طلب الاستئناف الذي كان ربما سيكشف حقيقة ما حدث".
وحسب ما قاله فيسك فقد فضل البريطانيون اعادة المقرحي الى بلده ليبيا على فتح الباب امام طوفان من المعلومات التي كان يمكن ان تظهر في الاستئناف.
ومعنى كل ذلك ان تنازل المقرحي ومن ورائه ليبيا عن حق الاستئناف سمح للقضاء الاسكتلندي بتلافي الأخطاء الكثيرة التي تخللت سير المحاكمة وتدارك القصور في تطبيق العدالة وذلك باعلان قرار الافراج طالما انه لا اثباتات على تورط المقرحي، وأن اختيار الافراج لدواعي انسانية، وهو جزء من النظام القضائي الاسكتلندي، ليس سوى حرصا من الديبلوماسية الليبية على حفظ كرامة مواطنها المقرحي واعادته في أسرع وقت ممكن الى ليبيا ليعيش ما تبقى له من أشهر في بلده وبين أفراد عائلته فالهدف إذن من تحركات الديبلوماسية الليبية في المقام الأول هو استعادة المقرحي حيا حتى لوكان ذلك على حساب حق الاستئناف وحق معرفة الحقيقة.
وذاك هدف كان يصعب تحقيقه في حال تمسك المقرحي بحق الاستئناف لأن ذلك يجعل فرص عودته الى ليبيا حيا ضئيلة بسبب طول اجراءات الاستئناف من ناحية وتغلغل سرطان البروستات الذي وصل الى مراحل متقدمة في جسده من ناحية أخرى وأصبح يهدد حياته في أي لحظة.
في النهاية فإن قرار الإفراج أسعف القضاء الاسكتلندي وأنقذ الحكومة البريطانية وسمح للمقرحي بربح ما تبقى له من حياته في "الوقت الضائع". فلماذا إذن كل تلك الضجة؟ ولماذا هذه الجعجعة الأنغلوساكسونية ضد الحقائق وضد براءة المقرحي؟
الخبيرون بالتاريخ البريطاني والاسكندنافي في القرون الحديثة يعلمون أن هؤلاء ظلوا لفترات عديدة في التاريخ الحديث يتمتعون بقدرتهم الفائقة على الدس وابرام الاتفاقات في العتمة وخلف الأبواب المغلقة. وكانوا ينفردون دائما، ومازالوا الى اليوم بقدرتهم على لي عنق الحقائق، في حرب العراق مثلا، وتغيير مسار الأحداث والتاريخ وتغيير التكتيكات ولعبة المصالح والأحلاف وكانوا دائما وراء زرع النعرات والنزاعات الطائفية والعرقية والدينية في الشرق الأوسط وفي آسيا، بشكل خاص.
لا يحتاج المشهد البريطاني الى عناء كبير لفهم تلك التموجات والتلوينات وتفسير أسبابها فهم اعتادوا القفز على اللب وترييش الحقائق.
ولعل فهم التاريخ في هذا المقام يساعد في الواقع على تقدير الاختراق الديبلوماسي الليبي الذي أمكن له الخروج في النهاية بالمقرحي من كل تلك المعمعة. ولا أحد من الغرب يمكنه أن يزايد على الإنجاز الليبي لأنه أثبت براءة مواطنه امام القضاء الهولندي والاسكتلندي نفسه.
من حق ليبيا أن تفرح ببراءة المقرحي وتستقبله استقبال الأبطال. ومن حقها ان تمارس كل الضغوط من أجل ضمان كرامة كافة مواطنيها. وإن كان القضاء البريطاني قد فشل في تحديد المورطين الحقيقيين أو فضل التغاضي عن كشفهم فالذنب ليس على ليبيا، هذه قضيتكم انتم وهذا شأنكم انتم.
البريطانيون الشرفاء اليوم بمن فيهم أجهزة القضاء الاسكتلندي وروبرت فيسك وغيره من الاعلاميين يعلمون أن "العدالة اجهضت" فوق أراضيهم وحتى اهالي ضحايا الطائرة المنكوبة في لوكربي وعلى رأسهم المتحدث باسمهم جيم سواير الذي فقد ابنته في الكارثة، كلهم يشعرون بالتضليل وهم يطالبون اكثر من أي وقت مضى، بعد اقتناعهم ببراءة المقرحي، بكشف الحقيقة ولا شيء غيرها.
لكن الحقيقة ستظل مرهونة أولا بمدى رغبة بريطانيا افي الكشف عمن له المصلحة في أن يكون المقرحي "كبش فداء" في تفجيرات لوكربي المعقدة وأن يكون سجينا مدى الحياة لتظل خلفه أسرار لوكربي معلقة.
وفي مطلق الأحوال فإنه بعد أن ثبت أن الفاعل الحقيقي خلف لوكربي ليس في طرابلس، بات على بريطانيا ان تفتش عنه في عاصمة أخرى، ان كانت فعلا راغبة في الكشف عن الحقيقة.