من أسرار البيان في القرآن (بلاغة القرآن)
الشيخ الدكتور عبد المحسن العسكر (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)
تعرف العربية عبر تاريخها الطويل خطاباً أبلغ ولا أرقى ولا أسمى من خطاب القرآن، ولا غرو، فهو كلام الله عز وجل المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وإذا أردت أن تقف على عظمة القرآن فاشخص ببصرك إلى القوم الذين نزل بساحتهم لأول أمره، وتليت بين ظهرانيهم آياته، وتوجهت إليهم خطاباته، فلقد كانوا قوماً ذوي بيان وفصاحة، بل كانوا رؤساء صناعة الخطب، وعبيد الشعر، وفرسان الحكمة، ولقد تحداهم القرآن في مرات كثيرة أن يأتوا بمثله، أو بأقل سورة منه، فعجزوا العجز كله، وسجل عليهم القرآن عجزهم، وقطع عليهم الطريق قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) الأسراء:88. بيد أنه وجد في القوم من لم يستطع كتم إعجابه وانبهاره بأسلوب القرآن ومن هذا ما جاء عن الوليد بن المغيرة أحد صناديد قريش، وكان قد استمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلو شيئا من القرآن، فقال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإته ليعلو ولا يعلى(ينظر: تفسير عبد الرزاق الصنعاني 2/328، مستدرك الحاكم 2/506، دلائل النبوة للبيهقي 2/198. لقد تعددت مناحي الإعجاز البلاغي، ذلك لأن القرآن بلغ الذروة في صياغته وأسلوبه، قال القاضي أبو بكر الباقلاني: وهو-أي القرآن- بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه)(إعجاز القرآن 68). وقال أبن أبي الأصبع المصري: ( وإذا انتهيت إلى بلاغة الكتاب العزيز انتهيت إلى نهاية البلاغة (تحرير التحبير، 329)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمة: أكمل الألسنة لسان العرب، وأكمل البلاغة بلاغة القرآن، باتفاق أهل العلم.(الرد على البكري 319). طفق العلماء يكتبون بصدق صادق في بلاغة القرآن وطرائق نظمه، وعرضوا لمجازاته ، وتشبيهاته، واستعاراته، وكناياته، إلى غير ذلك من ضروب الأداء فيه، كما تحدثوا عن مراعاته لمقتضى الحال، واختلاف نظم الآيات المتحدة في معانيها، أو ما يعرف بالمتشابه اللفظي، فكتبت كتابات مستقلة في هذا، ومن ذلك(النكت في إعجاز القرآن، لأبي الحسن الرماني(ت386) و(بيان إعجاز القرآن) لأبي سليمان الخطابي (ت388هـ) و(الرسالة الشافية) و (دلائل الإعجاز) كلاهما لعبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) وكل هذه الكتب مطبوعة. فأما كتب التفسير فقلما خلا كتاب منها من الحديث في بلاغة القرآن، فمن مقل منهم ومن مكثر، والغرض من كل أولئك الكشف عن مراد الله في أحكامه، وما يريده من العباد، ثم تلمس مواضع الحسن، ومواطن الجمال في أسلوب الذكر الحكيم. هذا؛ وإسهاما من هذا الموقع في خدمة كتاب الله، رؤي أنه تكون هذه المساحة ميداناً تعرض فيه آيات من القرآن، ثم تتبع بالحديث عن بلاغتها، وتحليل أسرار النظم فيها، حديثاً يعين على تجلية المعنى ويدخل السرور على القلوب إن شاء الله، ويزيد العبد إيماناً وتصديقاً بكلام ربه، وهذه مطالب سامية وأغراض شريفة، يجب أن يتوخاها مجتمعة كل من يكتب أو يقرأ في بلاغة التنزل العزيز، لا أن تكون الكتابة أو القراءة في هذا لمحض الإمتاع والتذوق الفني، فإن ذلك يكون على حساب المعاني، وهذا ما لا يليق بمؤمن، ولم ينزل القرآن لمجرد الإمتاع. وسنشرع فيما قصدنا إليه بدءا من الحلقة التالية، والله أسأل وبأسمائه وصفاته أتوسل أن يجعل عملنا خالصا صواباً، وينفع به قارئه وكاتبه، إنه سميع مجيب.