بسم الله الرحمن الرحيم
ما ان تواجهك اولى معالم العمران في العاصمة الموريتانية نواكشوط بعد رحلة قصيرة من المطار المتواضع حتى تشعر انك في احدى مدن الصعيد في مصر مع فارق اختفاء الخضرة وامتداد الصحراء في محيط العاصمة.
المنازل متواضعة من اللبن الا القليل منها ، وهي عبارة عن غرف متلاصقة اما مستقيمة او على شكل ضلعي مستطيل يتوسطها ساحة صغيرة يحدها سور مرتفع وباب حديدي عريض.
اما الاسواق فهي على الطراز القديم عبارة عن دكاكين تمتد لمئات الامتار تعرض بضائعها بطريقة قديمة ايضا من المنتجات الصينية ملابس واقمشة واحذية واجهزة كهربائية وقليل جدا من محلات الكمبيوتر.
الطرقات ضيقة معظمها بلا ارصفة فتغطي اطرافها الرمال، والمياه شحيحة وكذا الصناعة تقليدية والزراعة يعمل بها الملونين.
في نواكشوط كل شيء قديم حتى الحديث ليس له علاقة بالحداثة ، وكذا العلاقات الاجتماعية ما زالت قديمة للغاية حيث القبلية والعشائرية والعنصرية ، وما زالت ذيول تجارة الرقيق ظاهرة للعيان وان بشكل سري بعد ان تم تحريمها بالقانون في اواسط سبعينات القرن الماضي.
لكن من غير المالوف في أي مكان اخر في دول العالم تقريبا هو المكانة المرموقة التي تحظى بها المراة الموريتانية، حيث تمارس التجارة بتفوق عن الرجال ولها حضور اجتماعي مميز في مختلف الميادين.
في موريتانيا التي يفصلها عن العصر الحديث عشرات السنين ترتع القبلية وتتسيد النسيج الاجتماعي والسياسي والعسكري والتجاري وكل جوانب الحياة تقريبا، في مجتمع ينقسم الى قسمين الابيض ذو الاصول العربية والبربرية والاسود القادم من الجنوب.
والعنصر الابيض هو خليط نتج عن امتزاج القبائل العربية التي هاجرت الى موريتانيا وخصوصا من صعيد مصر والبربر الذين هاجروا اليها من الشمال من المغرب والجزائر.
موريتانيا تعيش حالة من عدم الاستقرار السياسي بسبب البنية الاجتماعية والاقتصادية السائدة فيها، حيث القيم البدوية الممزوجة بالقيم الاسلامية المحافظة في ميدان العلاقات الاجتماعية تسمح للكثير من الخيال الشعبي ان يقرر سلوك ومستقبل الافراد والجماعة.
وعلى الصعيد السياسي تلعب قيم القبيلة الدور الرئيسي في السلوك السياسي فالانحياز اولا وقبل كل شيء هو لابن العم وابن القبيلة على قاعدة "انا واخوي على ابن عمي وانا وابن عمي على الغريب" ولذلك نشات الجماعات السياسية على قاعدة الانتماء القبلي والتحالف القبلي، ورغم الجهود الكبرى الي يبذلها بعض المثقفين من الليبراليين والعلمانيين ، الا ان دروهم هامشي وغير مؤثر في العلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية.
ولان العلاقات الاجتماعية تحددها مفاهيم قبلية بائدة ، ولم يتمكن المجتمع من تحقيق أي تقدم في مجال بناء قاعدة اقتصادية حديثة ولو بادنى درجات التواضع، فان جوهر القضايا المركزية التي يتفاعل حولها الموريتانيون لا تتجاوز الا لماما الصراعات الدائرة بين القبائل التي اصبح لها احزابا تمثلها باعتبار ان الاحزاب وسيلة للوصول الى السلطة ليس بهدف تحقيق برامج تنموية في الميادين المختلفة بقدر تحقيق التميز في المكانة الاجتماعية على القبائل الاخرى.
ففي موريتانيا لا يوجد في الواقع صراع سياسي بالمعنى الحديث للصراع السياسي أي صراع من اجل الارتقاء بالوطن بقدر ما هو صراع على السلطة ومن اجل السلطة.
ولهذا فان كل من يركب دبابته فجر احد الايام ويسيطر على قصر الرئاسة ومقر الاذاعة لا بد له وان يكون جزءا من تحالف قبلي يدعمه ويؤازره ، واذا شعرت قبيلة او مجموعة من القبائل ان الرئيس تخلى عنها او قزم دورها او حجب عنها بعض الامتيازات فانها تنقلب عليه وتتحالف مع غيره.
فالموريتاني للاسف هدفه كرامة قبيلته وبالتالي موقعه الاجتماعي الشخصي اكثر مما تهمه موريتانيا.
ولهذا فليس من المستغرب ان يبتلى هذا البلد العربي الذي يبلغ عدد سكانه حوالي 3 ملايين نسمة بالانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار السياسي .
فالتخلف الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي يجعل من التطاحن والاقتتال على السلطة هو الناظم لحياة المجتمع تماما كما كان الغزو والقتل والسبي بسبب الكلأ والمرعى هو الناظم لحياة القبائل منذ الفي عام.
فطالما ان وسائل الانتاج ما زالت شبه رعوية شبه زراعية فانها لن تفرز الا علاقات بدائية متخلفة ورجعية، وطالما العقلية المسيطرة في مجتمع ما هي العقلية القبلية بكل ما تعنيه علاقات الدم والنسب من قيم عليا فان الحياة السياسية لن تتمكن من الارتقاء لمواجهة المعضلات الحقيقية التي تواجهها البلاد.
وهذه المنظومة الانتاجية الفكرية الاقتصادية الاجتماعية لن يكون بمستغرب معها ان تشهد انقلابات عسكرية بين حين واخر. ولن تتمكن من وضع قواعد ثابتة للديمقراطية
فبعد جهد جهيد تتمكن الشعب الموريتاني من الخلاص من حكم العقيد معاوية ولد سيدي احمد الطايع الذي استولى على السلطة بانقلاب عسكري عام 1992. على يد العقيد علي ولد محمد فال مدير الامن الوطني الذي افشل عدة انقلابات سابقة على ولد الطايع الذي قام بانقلاب مافجيء عام 2005.
وأوفى العقيد علي ولد محمد فال بوعده واجرى اول انتخابات ديمقراطية في تاريخ موريتانيا في مارس من عام 2007 وفاز فيها سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله ليكون اول رئيس مدني في تاريخ موريتانيا.
لكن الشعب الموريتاني الذي لم يرتق بعد الى مستوى الممارسة الديمقراطية فوجيء صباح اليوم وبعد تطورات سياسية في جوهرها الخلاف على تقاسم السلطة بانقلاب يقوده رئيس الحرس الجمهوري بعد اقل من سنة ونصف على ممارسة اول رئيس مدني سلطاته، وتم اعتقال الرئيس ورئيس وزرائه ، وتشكيل مجلس عسكريى لحكم البلاد.
والمتابع للتطورات في موريتانيا في الاشهر الاخيرة يجد ان محاولة الرئيس الاعتماد على قوى مدنية لترسيخ حكمه وترسيخ الديمقراطية في البلاد اثارت المؤسسة العسكرية وحلفائها من السياسيين المدنيين، وبتحريض من العسكر انسحب عدد من اعضاء البرلمان من حزب الرئيس، وعندما حاول الرئيس تدارك المؤامرة واستباق الامر على المحاولات الجارية لاعادة تشكيل حلف السلطة ، كان العسكر اكثر سرعة ومبادرة.
وقد اخذت العقلية القبلية بالانتقال من الشكل التقليدي في التعبير عن وجودها السياسي الى الشكل الحزبي منذ اوائل عقد التسعينات من القرن الماضي وظهرت الكثير من القوى السياسية معظمها طغت عليه الشخصنة الحزبية والديكتاتورية والفردية والانقسام تبعا للنفوذ القبلي من ناحية وتبعا لضعف النخبة السياسية من ناحية اخرى.
وفي فترة مبكرة من عقد التسعينات ظهرت بعض القوى اليسارية والعلمانية والقومية الزنجية وشكلت معارضة قوية للرئيس ولد الطايع وطالبت بابعاد الجيش عن السلطة. لكن الاحزاب الديمقراطية عانت من الانقسام والتشظي وظهر من رحمها العديد من الاحزاب الصغيرة التي دارت بينها معارك سياسية ضارية من اجل السيطرة والزعامة.
كما نشات احزاب عديدة في معظمها كان مواليا للقصر مع بعض الاستثناءات كحزب الناصريين وحزب قومي كان له ارتباط بحزب البعث في العراق لكن هذه الاحزاب افتقدت الى قاعدة شعبية وجماهيرية وظلت احزاب نخبوية معزولة عن الجماهير ولم تمكن من اختراق نفوذ القبيلة وتقاليدها.
ورغم محاولات بعض مثفي اليسار من تشكيل حزب من بقايا حزب اتحاد القوى الديمقراطية لكن محاولاتهم ظلت محدودة التاثير ولم تخرج عن نطاق النشاط النخبوي. ولم يحظى سوى ب 6 في المائة فقط من اصوات الناخبين في انتخابات 2003.
وظل الحزب الجمهوري للديمقراطية والتجديد هو اكثر الاحزاب تاثيرا في الحياة السياسية وكان يضم كبار الموظفين في الدولة وقادة الاجهزة الامنية والقضاة والتجار وشيوخ القبائل بصفته حزب القصر الى ان سقط الحزب وتجزأ بعد سقوط ولد الطايع وغير اسمه الى الحزب الجمهوري للديمقراطية والتجديد.
ولم تغب القوى الاسلامية عن الساحة في السنوات الاخيرة فمع ما يسمى بالصحوة الاسلامية بفعل التاثير الاعلامي وانتشار المساجد وتجديد الخطاب الديني تمكن التيار الاسلامي من استقطاب قطاعات كبيرة من الشباب والعمال والنساء.
وجاءت صحوة التيار الاسلامي بعد حوالي ثلاثة عقود من المحاولات غير الناجحة ولكن مع انضمام فعاليات فكرية من اساتذة المدارس والطلاب تمكن من السيطرة على بعض النقابات ، وازدات شعبيته بقوة مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية عام 2000 وظهر كاكبر قوة سياسية معارضة للرئيس ولد الطايع و سياسته الرامية الى اقامة علاقات مع اسرائيل.
لكن التيار الاسلامي القريب من فكر جماعة الاخوان المسلمين لم ينشيء حزبا سياسيا وما زالت السلطات تعارض السماح له بتشكيل حزب سياسي.
وبالرغم من كثرة الاحزاب في موريتانيا فان الحزب الحقيقي الذي يتحكم بسير الامور في البلاد في معظم الاحيان وهو حزب غير رسمي (اي ليس له كيان) وعبارة عن مجموعة من المستقلين من وجهاء وزعماء القبائل وبعض التجار والموظفين السابقين الكبار في الدولة وهم يمثلون قوة ضغط كبيرة قريبة من العسكر.
لكن الحزب الحاكم في كل المراحل التي مرت بها موريتانيا لم يكن سوى حزب المؤسسة العسكرية (جيش وقوات امن) ، فعلى الرغم من كون العسكر لا يمارسون الحكم مباشرة الا انهم كما هي الحال في تركيا هم الذي يحكمون البلاد فعليا.
هذه هي موريتانيا مجتمع قديم ما زال امامه الكثير للانتقال الى المجتمع الحضري الحديث وما زالت الحركة السياسية بعيدة الى حد كبير عن الحياة الديمقراطية، والى ان يتمكن من الانتقال الفعلي للحياة المعاصرة، فامه الكثير من الانقلابات والاضطرابات السياسية.
الإثنين مارس 22, 2010 8:56 pm من طرف محمد الأنصاري